الموقع الرسمي | القاهرة الاخبارية

تعقيد متزايد.. دلالات إجلاء رعايا الدول من السودان

  • Share :
post-title
الجانب المصري من معبر أرقين البري-أرشيفية

Alqahera News - د. مبارك أحمد

بدأت دول العالم في إجلاء رعاياها من السودان جوًا وبرًا وبحرًا، بعد مرور ما يقرب من عشرة أيام على تفجر المواجهات الدامية بين قوات الجيش السوداني وميليشيا "الدعم السريع" - منذ 15 أبريل 2022- لتكشف تلك العمليات عن تعقد المشهد السوداني واحتمالاته المفتوحة على كل السيناريوهات، بما فيه السيناريو الصعب في أن تشهد العاصمة السودانية صراعًا عسكريًا شرسًا، نظرًا لرمزيتها باعتبارها مركز الحكم، إذ يوجد بها معظم المؤسسات الرسمية المعنية بتسيير شؤون الدولة السودانية، وبها مبنى الإذاعة والتليفزيون ومقر القيادة العامة للقوات المسلحة، وكذلك بها مقار البعثات الدبلوماسية.

وفى ظل اشتداد المعارك وعدم صمود الهدنة التي أُقرت لثلاثة أيام خلال عيد الفطر المبارك، للسماح للمواطنين بالوصول إلى مناطق آمنة وزيارة عائلاتهم خلال عطلة العيد، ومع تردى الأوضاع الأمنية والإنسانية، واستهداف الموظفين الدبلوماسيين من قبل ميليشيا مسلحة، جاءت قرارات الدول بإجلاء الرعايا ليصل عدد الدول التي أجْلت رعاياها إلى ما يزيد على 25 بعثة أجنبية غادرت السودان.

إجلاء سريع

اتجهت الدول إلى إجلاء رعاياها من السودان بشكل سريع ولافت، فعلى مستوى الدول العربية اتجهت كل من مصر (يقدر عدد رعاياها في السودان بنحو 10 آلاف شخص)، والسعودية والإمارات والأردن والكويت وغيرها إلى إجلاء رعاياها من السودان، كما فتحت القاهرة معبر أرقين البري أمام المواطنين المصريين والسودانيين ورعايا الدول الصديقة الفارين من السودان.

وعلى مستوى الدول الغربية، نجحت الولايات المتحدة الأمريكية في إجلاء كل رعاياها، وأعلن وزير الخارجية أنتوني بلينكن أنه أمر بإجلاء موظفي السفارة الأمريكية في الخرطوم، كما تقرر تعليق عمل السفارة الأمريكية، فيما أعلن رئيس الوزراء البريطاني ريشي سوناك عن إجلاء الدبلوماسيين البريطانيين وعائلاتهم، واتخذت فرنسا قرارًا بإجلاء رعاياها وأعلنت الخارجية الفرنسية إجلاء 100 من الرعايا الفرنسيين، على أن يتبعهم 100 آخرون. كذلك قررت العديد من الدول الآسيوية بإجلاء رعاياها مثل: إندونيسيا وكوريا الجنوبية، واليابان.

أسباب متنوعة

هناك العديد من الأسباب التي أدت إلى اتجاه دول العالم إلى إجلاء رعاياها من السودان، وهو ما يمكن إبراز أهمها في التالي:

(*) مسؤولية الحكومات أمام الناخبين: يشكل الحفاظ على أرواح رعايا الدول مسؤولية الحكومات التي تم انتخابها، والتي من بين وظائفها حماية المواطنين في الداخل والخارج.

وفى ظل استخدام تلك الورقة في الانتخابات -سواء أكانت برلمانية أو رئاسية- تسعى الحكومات لإجلاء رعاياها من المناطق الخطرة وغير الآمنة، التي تشهد أعمالًا للعنف الدامي وتأمين وصولهم إلى بلادهم، حتى لا يتم اتهامها بالتقصير من قبل المعارضة، إذ يتم استخدام تلك الورقة في الانتخابات أو من قبل المؤسسات التشريعية التي تقوم بالرقابة على عمل الحكومات. لذلك جاء على سبيل المثال القرار الأمريكي بسحب الدبلوماسيين من السفارة بالسودان، منعًا لتعرضهم لإيذاء يتم توظيفه في الانتخابات الرئاسية القادمة 2024، كما حدث في توظيف الرئيس الأمريكي السابق دونالد ترامب في الانتخابات الرئاسية 2016 للهجوم على القنصلية الأمريكية في بنغازي ضد الديمقراطيين.

لذلك يمثل الرأي العام متغيرًا يتأثر بما يحدث في ظل انتشار وسائل التواصل الاجتماعي، التي تعكس أن الوضع في السودان أشبه بحالة حرب الكل ضد الكل، كما وصف الفيلسوف توماس هوبز في القرن السابع عشر، حال المجتمع البريطاني.

أعمدة الدخان تتصاعد في الخرطوم

(*) ارتفاع وتيرة الصراع: مثل ارتفاع وتيرة الصراع دافعًا لاتخاذ الدول قراراتها بإجلاء رعاياها من السودان، وعبر عن ذلك أنتوني بلينكن، وزير الخارجية الأمريكي، بأنه أمر بإجلاء موظفي السفارة الأمريكية وأسرهم، بسبب المخاطر الأمنية الرهيبة والمتنامية وسط القتال الذي أودى حتى الآن بحياة المئات إضافة إلى آلاف الجرحى. كما أعلن الاتحاد الأوروبي أنه يحاول تنسيق عملية لإجلاء المدنيين من المدينة التي بات الوضع فيها الآن في غاية الخطورة.

(*) تردى الأوضاع الإنسانية: شكّل تردي الأوضاع الإنسانية في السودان وانعكاس الاشتباكات المسلحة على البنية التحتية من طرق ومرافق خاصة المطارات، إلى جانب وسائل الإعاشة نفسها من أغذية ووقود وأدوية، دوافع مؤثرة لاتخاذ الدول قرارات بإجلاء رعاياها من السودان. فقد أصبحت ما يقرب من 30 مستشفى خارج الخدمة بسبب الاشتباكات المسلحة كما تعاني المستشفيات من النقص الشديد للوازم الطبية، فضلًا عن ارتفاع حصيلة القتلى الناجمة عن المواجهات، فقد ذكر المدير الإقليمي لمنظمة الصحة العالمية بمنطقة شرق المتوسط أحمد المنظري في تصريح لقناة "القاهرة الإخبارية" أن حصيلة الاشتباكات التي اندلعت في 15 حتى 23 أبريل الجاري بلغت 420 قتيلًا و3700 جريحًا.

(*) استهداف الدبلوماسيين: اتهمت القوات المسلحة السودانية، ميليشيا "الدعم السريع" بارتكاب عدة انتهاكات ضد البعثات الدبلوماسية، شملت الاعتداء على مواكب إجلاء الدبلوماسيين والرعايا الأجانب، منها موكب إجلاء أفراد السفارة القطرية المتجه إلى بورتسودان، والاعتداء على موكب السفارة الفرنسية أثناء عملية الإجلاء، والاستيلاء على العربة الدبلوماسية الخاصة بسفير ماليزيا. وقبلها ألمح وزير الخارجية الأمريكي إلى إطلاق ميليشيا "الدعم السريع" النار صوب موكب دبلوماسي أمريكي.

دلالات متعددة

تعكس قرارات الدول بإجلاء رعاياها من السودان عدة دلالات أولها، التوقع بإطالة أمد الحرب في السودان بين الأطراف المتصارعة، وأنه لن يحسم فيها طرف المعارك لصالحه، وهنا ستتزايد المخاطر على المشهد السوداني المعقد بطبيعته، ومنها احتمالية سقوط آلاف من الضحايا المدنيين، وتدمير شبه كامل للبنية التحتية، ونزوح السكان من مناطق الصراع المحتدمة في العاصمة السودانية وحولها، بما سيجعل من العاصمة مسرحًا للعمليات بين الأطراف المتصارعة، وهو ما سيؤثر على قيام الدولة السودانية بأداء وظائفها التقليدية، وفى حالة نجاح الجيش في الصمود والدفاع عن العاصمة، فإن ثمة اتجاهات تعتقد بأن ميليشيا "الدعم السريع" ربما تتجه نحو التمركز في دارفور التي واجهت متمرديها في بداية تكوينها عام 2013، ولديها خبرات في التعامل مع واقعها، فضلًا عن وجود حواضن قبلية لتلك الميليشيا في دارفور.

فوضى الانسحاب الأمريكي من أفغانستان

أما الدلالة الثانية؛ فهي ترتبط بالخبرات السلبية للولايات المتحدة الأمريكية في دول الصراعات، والتي بادرت بسحب رعاياها وتبعتها الدول الغربية، والتي تعكسها المفارقة التالية، ففي 17 أبريل 2023، أكد جون كيربي، المتحدث باسم البيت الأبيض، أنه لا توجد خطط لدى الحكومة الأمريكية للقيام بعمليات إجلاء من السودان في الوقت الحالي.

وفي 22 أبريل 2023، أعلنت الولايات عن إجلاء لدبلوماسيّيها من السفارة الأمريكية بواشنطن. هذه المفارقة تعكس أن خبرة اقتحام قنصليتها في بنغازي الليبية في سبتمبر 2012 لا زالت ماثلة في أذهان صناع القرار الأمريكي، وهو الاقتحام الذي أودى بحياة أربعة أمريكيين، من بينهم السفير كريستوفر ستيفنز.

وتأتي الدلالة الثالثة وربما الأهم في أن إجلاء الرعايا الأجانب لا سيما رعايا الدول الغربية سيقلل من الاهتمام العالمي بالأزمة السودانية، وذلك مع اتجاه الدول نحو إغلاق سفاراتها وسحب ممثليها الدبلوماسيين، الذين من المفترض أن يشكلوا جسرًا مهمًا للتواصل ما بين الأطراف المتصارعة في السودان، ويعزز من ذلك التصور أن دول الآلية الرباعية (الولايات المتحدة الأمريكية، وبريطانيا، والسعودية، والإمارات) كانت من أوائل الدول التي قررت سحب وإجلاء دبلوماسيّيها ورعاياها.

مجمل القول؛ إن تسريع الدول لإجلاء رعاياها ودبلوماسيّيها من السودان، يعكس تعقد الأزمة السودانية وصعوبة الأوضاع الميدانية، في ظل استمرار الاشتباكات بين قوات الجيش السوداني من ناحية، وميليشيا "الدعم السريع" من ناحية أخرى، وهو ما سيلقي بظلاله على مستقبل السودان الذي يحتاج إلى إرادة وطنية داخلية تدعم ما تبقى من الدولة، وتمنع دخول البلاد في أتون الفوضى والتشرذم وتقسيم المُقسَّم.