الموقع الرسمي | القاهرة الاخبارية

ما أولويات قادة وخبراء العالم في مؤتمر ميونخ للأمن 2023؟

  • Share :
post-title
مؤتمر ميونخ للأمن 2023

Alqahera News - ضياء نوح

جاء انعقاد مؤتمر ميونخ للأمن في نسخته 59 في وقت بالغ الصعوبة، يسبق الذكرى الأولى للحرب الروسية الأوكرانية بأيام قليلة، وهو ما يجعل القضايا ذات الأولوية التي يطرحها قادة العالم في جلساته، تختلف كثيرًا عن قضايا المؤتمر في 2022. لعل مرور عام تقريبًا على الحرب الأوكرانية، سيجعل الوضع الأمني الأوروبي هو الشغل الشاغل للقادة الأوروبيين في ميونخ 59، بالإضافة إلى أن قضايا الأمن الغذائي وأمن الطاقة وارتفاع الأسعار عالميًا باعتبارها من مركبات الأوضاع الداخلية في بعض الدول المشاركة، ستكون حاضرة بقوة خلال فعاليات المؤتمر، الذي ربما يتفق القادة الأوروبيون من خلاله على زيادة الدعم العسكري لأوكرانيا، وهو ما لمح إليه الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون. تأسيسًا على ما سبق وفي ظل تداعيات الذكرى الأولى للحرب الروسية الأوكرانية، يبقي السؤال هو: فيما يفكر قادة العالم وخبراؤه خلال جلسات وفعاليات ميونخ 59، وما الذي يحتمل أن يتفق عليه القادة الأوروبيون؛ لتأمين أمن قارتهم بعد ضغوط الحرب المستمرة؟

يُعد مؤتمر ميونخ للأمن، بوصفه أهم حوار أمني بين كبار القادة والخبراء، شاهدًا على مراحل مهمة من التاريخ الأوروبي والعالمي الحديث، ليس أدل على ذلك من اتخاذ المؤتمر منصة لإعلان عودة روسيا إلى الساحة الدولية في خطاب الرئيس الروسي فلاديمير بوتين في 2007، مع انتقاد نظام ما بعد الحرب الباردة القائم على الأحادية القطبية، و"الكارثة الاستراتيجية" التي حلت بموسكو بسقوط الاتحاد السوفييتي وانهيار حلف وارسو وانتقال دول الجوار إلى حلف الناتو وبالتبعية انهيار التوازن في النظام الأمني الأوروبي، من وجهة النظر الروسية.

تحديات عالمية:

تناول التقرير السنوي لمؤتمر ميونخ قبيل انطلاق فعالياته الرئيسية، عددًا من القضايا التي هيمنت عليها تحولات المشهد على الساحة الدولية في أعقاب الأزمة الروسية الأوكرانية التي أحدثت انقسامًا عالميًا، رآه القائمون على المؤتمر صراعًا بين الديمقراطية الغربية والقوى التصحيحية "الأتوقراطية"، التي تسعى لـ"تغيير النظام العالمي القائم على القواعد":

مؤشر ميونخ للأمن

(*) التحديات الأمنية: مزيج معقد من التحديات الأمنية التقليدية وغير التقليدية كشف عنها مؤشر ميونخ للأمن، بتناول أبرز التهديدات الأمنية لعينة من 12 دولة هي (الولايات المتحدة وكندا والمملكة المتحدة وألمانيا وفرنسا وإيطاليا واليابان والهند والصين وأوكرانيا والبرازيل وجنوب إفريقيا)، وتصدرتها روسيا لكافة الدول الغربية، بالتوازي مع المخاوف بشأن اضطراب إمدادات الطاقة (المملكة المتحدة وجنوب إفريقيا) وتغير المناخ بالنسبة للهند والبرازيل وإيطاليا، جراء ما عانته تلك البلدان من انتشار الجفاف وتداعياته على غطاء الغابات.

وركز المؤشر بصفة خاصة على الأزمة الروسية الأوكرانية من عدة أبعاد، أولها باستطلاع رأي عينة من الشعب الأوكراني (نوفمبر 2022) حول نتائج الحرب ميدانيًا وسياسيًا وانعكاساتها على توجهات بلادهم المستقبلية، فعلى صعيد النمط الأقرب الذي يتطلع المجتمع الأوكراني للعيش في ظله، جاءت أوروبا بنسبة 63% من المستطلعة آراؤهم، تليها الولايات المتحدة بنسبة 22%، فيما جاءت النسبة المتبقية بين "لا أعرف" بنسبة 12%، والدول النامية بنسبة 2%، والصين بنسبة أقل من 1%. وحول خيارات الأوكرانيينأمام أربعة سيناريوهات لتطور مسار العملية العسكرية الروسية، حيث أكد 95% من المستطلعة آراؤهم رغبتهم في استمرار القتال في حالة استمر إطلاق قذائف باتجاه المدن الأوكرانية، وجاءت النسبة إلى 91% إذا أقدمت روسيا على استخدام أسلحة نووية تكتيكية في البحر الأسود، وتراجعت النسبة إلى 89 % في حالة استخدام الأسلحة النووية التكتيكية في ميدان المعارك، وهي ذات النسبة في حالة استخدام هذا السلاح تجاه المدن الأوكرانية. وحول الشروط المقبولة أوكرانيًا لوقف إطلاق النار، والتي شهدت ارتفاعًا ملحوظًا في نسبة الآراء السلبية التي لم تصوت بالتأييد أو الرفض، حيث أجمع 93 % على انسحاب روسيا إلى ما قبل 2014، بما يشمل الانسحاب من شبه جزيرة القرم، ورفض واسع لأي خيارات أخرى. وحول انطباعاتهم بشأن الترتيبات الأمنية التي ستفضي لهدوء الأوضاع في بلادهم، أكد 83% أن تحقيق الأمن يرتبط برحيل الرئيس فلاديمير بوتين من الكرملين، فيما استبعد 75% استقرار بلدهم وشعوره بالأمن دون ضمانة غربية لأوكرانيا، وأيد نحو 72% وجود إمدادات أسلحة غربية دائمة لضمان أمن بلادهم، وبنسبة أقل 65% اعتبر المستطلعون أن تحقيق أمنهم يتطلب الانضمام إلى حلف الناتو، فيما أبدى 63% ثقتهم بضمانات الناتو والولايات المتحدة في الدفاع عن أوكرانيا، أكثر من الاتحاد الأوروبي.

وثاني تلك الأبعاد هو المنظور الغربي لسلوك القوى النووية غير الغربية والتي وصمتها بالديكتاتورية، والمخاوف بشأن تأثير الحرب الروسية الأوكرانية على الإخلال بتوازن الردع النووي على الصعيد العالمي مع تغير الاستراتيجية النووية الروسية والبرامج النووية غير المقيدة (الصين وكوريا الشمالية وإيران)، وإصرار القوى التصحيحية على تغيير النظام الدولي القائم باستخدام القوة، إن اقتضت الضرورة، في ظل امتناع العديد من دول الجنوب العالمي عن إدانة روسيا أمام الجمعية العامة للأمم المتحدة، في مؤشر على رفض هذه الدول للنظام العالمي أحادي القطب أكثر من تأييدهم لموقف أي من أطراف الأزمة الروسية الأوكرانية.

التنافس الدولي

(*) تداعيات التنافس الدولي: باعتباره أهم منصة للحوار الأمني في أوروبا، أظهر المؤتمر مؤشرات "الانكشاف الأوروبي" وتأثر القارة العجوز (والقوى المتوسطة والصغيرة عمومًا) بالتنافس بين الولايات المتحدة والصين، وكذلك التوترات الأمريكية الروسية في مجالات الأمن النووي وضبط التسلح، ونتج عن ذلك المشهد أولًا: تسليح التجارة العالمية: حيث باتت القوى المتوسطة والصغيرة أكثر تشككًا، إزاء صيغة الاعتماد المتبادل مع القوى الكبرى باعتباره مقدمة لانكشافها الأمني ووسيلة لإجبار الدولة على الدوران في فلك القوة الاقتصادية المهيمنة عليها. عبر تقرير مؤتمر ميونخ للأمن عن تلك الصيغة الخشنة في تنافس القوى الكبرى عبر تقديم حزم الدعم والحوافز التجارية في مجالات الغذاء والصحة والمناخ. وثانيًا: التنافس على البنى التحتية الحرجة: حيث أصبحت البنى التحتية العالمية (المادية) موضع تنافس القوى الكبرى عبر مشروعات، مثل مبادرة الحزام والطريق الصينية وطريق شمال جنوب الذي تتزعمه روسيا، والشراكة من أجل البنية التحتية والاستثمار العالمي التي أطلقتها مجموعة السبع الصناعية في يونيو 2022، وكذلك (الرقمية) ممثلة في التنافس التكنولوجي على نشر شبكات الجيل الخامس للاتصالات، حيث كانت هوائيات شركة هواوي الصينية وللمفارقة حاضرة على بعد 300 متر من مقر انعقاد القمة، حسب مجلة بوليتيكو الأمريكية، رغم المساعي المستمرة للولايات المتحدة لإثناء الحلفاء عن التعاون مع الشركة بدعوى تطويعها لأغراض التجسس.

آفاق التحول العسر

أنعشت الأزمة الروسية الأوكرانية توجه تحقيق الاستقلال الاستراتيجي الأوروبي في رسم المصالح الأمنية والاقتصادية في مواجهة روسيا، بعيدًا عن سياسة وتوجهات الولايات المتحدة، وهو ما يواجه عددًا من العوائق:

(#) توازن حرج: عبر القادة الأوروبيون عن الحاجة لردع روسيا على امتداد الجبهة الشرقية وتأمين فشلها في أوكرانيا، والتصدي لنفوذها المتصاعد في إفريقيا على حساب فرنسا والدول الأوروبية، دون الدخول في مواجهة مباشرة مع موسكو. وتكمن صعوبات ذلك التوجه على صعيد الوضع في أوكرانيا، في اختلاف تقديرات الدول الأوروبية لمستويات الدعم العسكري لكييف والتنافس الكامن على قيادة جبهة الدعم الأوروبية. وعلى صعيد المنظور الجيوسياسي الأوروبي، تظل احتمالية إشعال التوترات في المناطق الفاصلة بين روسيا ودول الاتحاد الأوروبي قائمة، خاصة في ضوء ما تعانيه بعض الدول بالفعل من نزاعات مُجمدة تغذيها حركات انفصالية أو صراعات عرقية في النطاق الأوروبي، كما تُعاني دول الجنوب، خاصة في القارة الإفريقية، من صراعات وأزمات أمنية مريرة فشلت القوى الغربية في احتوائها، فضلًا عن حلحلتها، والأكثر صعوبة هو مناهضة دول الجنوب العالمي لازدواجية المعايير الأوروبية، كما أشار إليها الرئيس الفرنسي نفسه.

(#) رؤية الأمن الأوروبي: يشمل ذلك التوجه، بناء عقيدة أمنية أوروبية تُعيد تشكيل تحالفاتها وضمان أمن دول الاتحاد دفاعيًا وجيوسياسيًا، بالتعاون مع قوى مجاورة تربطها ببروكسل مصالح أمنية مشتركة مثل المملكة المتحدة التي تساهم مع فرنسا في تحقيق الردع النووي الأوروبي، والشركاء من دول الجوار والقوى الساعية للانضمام إلى الاتحاد الأوروبي، التي تضمن أمن أوروبا عمومًا وأمن الطاقة بصفة خاصة، وأبرز تجليات أوروبا الجيوسياسية، هو المجتمع السياسي الأوروبي الممتد حتى جنوب القوقاز شرقًا.

كلمات الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون والمستشار الألماني أولاف شولتس، أشارت لأهمية الوصول لمستوى 2% من الإنفاق الدفاعي السنوي وتقوية أوروبا أمنيًا لحماية السلام في أرجاء القارة، عن طريق تطوير هياكل الصناعة الدفاعية الأوروبية (وليس عبر التسلح من قوى غير أوروبية).

(#) تباين المصالح عبر الأطلسي: كان من اللافت أن تقرير المؤتمر تناول رؤية استراتيجية من منظور التحالف عبر الأطلسي يتشابه في رؤيته للمصالح والتحديات المشتركة مع "المفهوم الاستراتيجي" لحلف الناتو الذي يتبنى المواجهة بين دول الغرب وحلفائه من الأنظمة الديمقراطية، باعتبارها قوى الوضع القائم الساعية للحفاظ على "النظام العالمي القائم على القواعد" والقوى التصحيحية (روسيا والصين) الداعية لتحقيق تحول جذري في قيادة النظام العالمي. لكن كلمات القادة الأوروبيين خالفت ذلك التوجه في بعدٍ رئيسي تمثل في رؤية الصين كقوة مهمة يُمكن التعاون معها ومخاطبتها بمسؤوليتها في منع الانزلاق إلى مواجهة عالمية جديدة. لكن هذا التباين لا يخفي أهمية دور الولايات المتحدة كمساهم رئيسي ذات أهمية حاسمة في أمن أوروبا عمومًا والجبهة الشرقية لحلف الناتو على وجهة الخصوص على المدى القصير بحد أدنى.

وإجمالًا؛ كانت الأزمة الروسية الأوكرانية نافذة لإلقاء الضوء على تحولات النظام الأمني الأوروبي، وما يعانيه من اختلالات جوهرية نتيجة ارتباطه بالتجاذبات بين كل من الولايات المتحدة وروسيا والصين على جبهات الطاقة والاقتصاد والأمن، وأظهرت فعاليات مؤتمر ميونخ للأمن، الحاجة المتزايدة لتفعيل دور أوروبا كقوة عالمية قادرة على الموازنة بين مجابهة التهديدات ومنع اندلاع أزمة كبرى تكون القارة العجوز ميدانها الرئيسي وأكبر المتضررين منها.