تأتى زيارة رئيس الوزراء العراقي محمد شيّاع السوداني إلى مصر في الخامس من مارس 2023، كأول زيارة له إلى القاهرة منذ توليه منصب رئيس الوزراء في أكتوبر 2022 بعد منح حكومته الثقة من قِبل البرلمان العراقي، كما تمثل الزيارة تتويجًا للجهود المصرية لدعم الدولة الوطنية العراقية، والحفاظ على وحدة وسيادة واستقرار العراق، وعودته إلى محيطه العربي، الذي يعد جزءًا أصيلًا من المنظومة العربية وأمنها القومي.
وتكتسب الزيارة أهميتها من عدة أوجه: أولها أنها تأتي عقب زيارة رئيس الوزراء العراقي محمد شيّاع السوداني إلى فرنسا في 26 يناير 2023، وهى الزيارة التي تم خلالها ترفيع العلاقات بين العراق وفرنسا إلى مستوى الشراكة الاستراتيجية، وعكست الرغبة العراقية فى تنويع الشراكات مع القوى الكبرى، لا سيما أن الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون شارك بفاعلية في دورتي مؤتمر بغداد للتعاون والشراكة، حيث عُقد المؤتمر الأول في بغداد أغسطس 2021 وبمشاركة الرئيس السيسي التي اعتبرت زيارته الثانية للعراق في ذلك التوقيت بعد زيارته الأولى في يونيو 2021 التى كانت أول زيارة لرئيس مصر للعراق منذ ثلاثة عقود، وجاءت للمشاركة في الجولة الرابعة لآلية التعاون الثلاثي بين مصر والعراق والأردن. أما المؤتمر الثاني فعُقد في الأردن ديسمبر 2022 بمشاركة عدد من دول الجوار والدول الصديقة المعنية باستقرار العراق وفى مقدمتها مصر، وأكد الرئيس عبد الفتاح السيسي خلال كلمته في المؤتمر على ضرورة تجديد الالتزام بالمبادىء الثابتة في العلاقات الدولية، التى ينص عليها روح ميثاق الأمم المتحدة ومقاصده وفي مقدمتها حُسن الجوار، وعدم التدخل في الشؤون الداخلية، وعدم الاعتداء والاحترام المتبادل لسيادة الدول، والتوقف عن فرض سياسة الأمر الواقع، وأهمية العمل على تحقيق المنفعة المشتركة.
وثانيها أنها تأتى عقب زيارة وفد عراقي رفيع المستوى برئاسة فؤاد حسين نائب رئيس الوزراء ووزير الخارجية العراقي إلى الولايات المتحدة الأمريكية في السابع من فبراير 2023، ولقائه بعدد من المسؤولين الأمريكيين لبحت أبعاد التحديات الاقتصادية التي تواجه العراق، وفي مقدمتها مشكلات القطاع المصرفي لحل أزمة توفير الدولار الذى وصل إلى ما يقرب من 1500 دينار عراقي للدولار الأمريكي الواحد، وهو ما انعكس على ارتفاع الأسعار وزيادة التضخم. وربما يعود ذلك إلى أنه منذ الغزو الأمريكى للعراق في مارس 2003 تم وضع عائدات النفط العراقي في حساب خاص لدى البنك الاحتياطي الفيدرالي الأمريكي، وزاد من تعقيد أزمة توفير الدولار قيود البنك الاحتياطي الفيدرالي الأمريكي أخيرًا على التحويلات للبنك المركزي العراقي لمنع تهريب الدولار إلى إيران.
وثالثها أن الزيارة تتزامن مع الذكرى العشرين لاحتلال العراق في مارس 2003، وهو الاحتلال الذى أسهم فى كسر قوة العراق وانهيار مؤسساته وتحوله لواحة للتنظيمات الإرهابية، الأمر الذى شكّل خروجًا للعراق من معادلة القوة الإقليمية، ومثّل خروجه خصمًا من رصيد القوة العربية الشاملة. وللمفارقة فإن تلك الزيارة تعكس فى أحد أبعادها التعافي العراقي من آثار الاحتلال وعودته إلى محيطه العربي الذي يشكل الدرع الواقية له ضد التجاذبات الإقليمية والدولية.
دلالات متعددة
عكست الزيارة العديد من الدلالات التي يمكن إبراز أهمها في التالي:
(*) تفعيل التعاون الاقتصادي: وفقًا للمتحدث الرسمي لرئاسة الجمهورية المصرية أعرب الرئيس عبد الفتاح السيسي خلال استقباله رئيس الوزراء العراقي محمد شيّاع السوداني عن حرص مصر على تفعيل أطر التعاون الثنائي المشترك في شتى المجالات السياسية، والاقتصادية، والتجارية، والثقافية، والإسراع في تنفيذ المشروعات المشتركة بين البلدين وفقًا لاحتياجات الشعب العراقي، وبما يعزز التكامل بين الجانبين، ويحقق الأهداف التنموية المشتركة.
من جانبه أعرب رئيس الوزراء العراقي عن تقديره للجهود المصرية الداعمة للعراق على الأصعدة كافة. مؤكدًا حرص بلاده على تعزيز أطر التعاون الثنائي الراسخة، واستطلاع آليات دفعها إلى آفاق أرحب والاستفادة من الكفاءات المصرية في مختلف المجالات، خاصةً في ضوء الدور المصري البارز في تعزيز آليات العمل العربي المشترك، لمواجهة الأزمات والتحديات الراهنة بالمنطقة، ما يعد نموذجًا يحتذى به في الحفاظ على الاستقرار والنهوض بالأوضاع التنموية والاقتصادية والاجتماعية. وتعكس بيانات الجهاز المركزي للتعبئة العامة والإحصاء مؤشرات تنامي التبادل التجاري بين البلدين، إذ بلغت قيمة التبادل التجاري بين مصر والعراق 147.3 مليون دولار في 2022 بزيادة قدرها 14.1 في المئة عن عام 2021، إذ بلغ التبادل التجاري 129.1 مليون دولار، كما ارتفعت قيمة الصادرات المصرية للعراق لتصل 141.8 مليون دولار خلال الربع الأول من عام 2022 مقابل124.1 مليون دولار خلال الفترة نفسها من عام 2021 بنسبة ارتفاع قدرها 14.2%. كما بلغت قيمة الواردات المصرية من العراق 5.5 مليون دولار خلال الربع الأول من عام 2022 مقابل 5 ملايين دولار خلال الفترة نفسها من عام 2021.
(*) تعزيز آلية التعاون الثلاثي: تعكس الزيارة الرغبة المصرية لمواصلة توفير جميع سُبل الدعم للعراق في الانتقال إلى مرحلة جديدة من الشراكة من خلال تعزيز العمل في أطر التعاون الثنائي، أو المتعدد كآلية التعاون الثلاثي بين مصر والعراق والأردن. وهي الآلية التى انطلقت من القاهرة في مارس 2019، وعقدت في إطارها العديد من القمم سواء على مستوى قيادات الدول أو على المستوى الوزاري. وتعد إحدى أطر العمل العربي المشترك الرامية إلى تحقيق التكامل، في ضوء مصالح الدول الثلاث من منطلق وحدة المصير والأهـداف المشـتركة. وأشار رئيس وزراء العراق خلال لقائه برئيس الوزراء مصطفى مدبولي إلى التعاون الثلاثي مع الأردن ومخرجات القمة الثلاثية، لا سيما فيما يخص الربط الكهربائي، وسيتم إنجاز المرحلة الأولى في يونيو المقبل، موضحًا أن هناك مباحثات لإنشاء منطقة لوجيستية على الحدود بين العراق والأردن، للمساهمة في توفير السلع والمنتجات ويمكن لمصر الاستفادة بها بتوفير المنتجات المصرية للسوق العراقية.
(*) دعم استقرار العراق: أثبتت الأزمات المتعاقبة، التي شهدتها العديد من دول المنطقة على مدار العقود الماضية أن تحقيق الاستقرار له متطلبات لا غنى عنها تبدأ بتعزيز دور الدولة الوطنية وتمكين مؤسساتها من الاضطلاع بمهامها في حفظ الأمن، وإعلاء سيادة القانون والتصدي للقوات الخارجة عنه، وصون مقدرات ثروات الشعوب، وهو ما سيوفر المناخ المناسب، لدفع عجلة الاقتصاد والتنمية المستدامة، وترسيخ دعائم الحكم الرشيد. لذلك تتبنى مصر الدعم الكامل لأمن واستقرار العراق، إذ أشار الرئيس عبد الفتاح السيسي، خلال استقباله رئيس الوزراء العراقي محمد شيّاع السوداني، إلى موقف مصر الثابت إزاء مساندة بغداد، على مختلف الأصعدة، لا سيما ما يتعلق بمكافحة الإرهاب، وترسيخ الأمن والاستقرار، وذلك وفقًا للمتحدث الرسمي لرئاسة الجمهورية.
مجمل القول إن زيارة رئيس الوزراء العراقي محمد شيّاع السوداني إلى مصر تعكس الرغبة المشتركة في تعزيز التعاون الاقتصادي في ظل امتلاك البلدين لمقومات هذا التعاون القائم على العلاقات الاستراتيجية والتوجه المصرى الداعم لوحدة العراق واستقراره، كما تعكس الزيارة أيضًا محورية آلية التعاون الثلاثي بين مصر والعراق والأردن التي من الممكن أن تشكل قاطرة للتكامل الاقتصادي العربي.