الموقع الرسمي | القاهرة الاخبارية

التأثير المحتمل للحرب الروسية الأوكرانية على النظام الدولي

  • Share :
post-title
التأثير المحتمل للحرب الروسية الأوكرانية على النظام الدولي

Alqahera News - د. مبارك أحمد

أحد الأسئلة المركزية التي تُطرح منذ بدء الحرب في أوكرانيا، 24 فبراير 2023، ما مدى تأثير الحرب على تغيير النظام الدولي القائم؟، وهل ستنجح الحرب في إيجاد حالة من الاصطفاف السياسية تشكل بداية جادة نحو إعادة تشكيل النظام الدولي وقيمه ومحركاته التي تهيمن على تفاعلاته الولايات المتحدة الأمريكية، منذ بدء انهيار الاتحاد السوفيتي عام 1990، وما تبعه من إعلان الرئيس الأمريكي جورج بوش الأب بعد عملية تحرير الكويت في 1991 عن نظام دولي تقود فيه الولايات المتحدة الأمريكية مجمل عمليات النظام الجديد الذي اتسم بالهيمنة الأمريكية؟.

ولا شك أن عملية تغيير النظام الدولي تتسم بالتعقيد الشديد، وارتفاع التكلفة، فالنظام الدولي الذي اتسم بالقطبية الثنائية ما بين الولايات المتحدة الأمريكية والاتحاد السوفيتي نشأ بعد الحرب العالمية الثانية بكل خسائرها البشرية والعسكرية، حتى إن مجلس الأمن تشكل من الدول الخمس المنتصرة في الحرب، التي حازت على العضوية الدائمة للمجلس ولها حق النقض (الفيتو)، فيما نشأ نظام القطبية الأحادية بعد انهيار الكتلة الاشتراكية بقيادة الاتحاد السوفيتي، الذى استمر حتى عام 2008، العام الذي شهد اندلاع الأزمة الاقتصادية العالمية، بما جعل العديد من الاتجاهات تميز ما بين التعددية الاقتصادية منذ ذلك التوقيت، التي تشير لوجود أقطاب اقتصادية بازغة إلى جانب الولايات المتحدة الأمريكية مثل الصين والاتحاد الأوروبي والهند، والهيمنة السياسية والعسكرية التي لا زالت تتمتع بها الولايات المتحدة الأمريكية باعتبار أنها تمتلك أكبر موازنة إنفاق عسكري على المستوى الدولي.

دعوات متكررة:

منذ بدء الأزمة الروسية الأوكرانية، جدد الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، دعوته لإرساء نظام متعدد الأقطاب، ونبذه للسياسة الأمريكية التي وصفها بالأحادية القطبية، واعتبر أن من بين أهداف تلك العملية إنشاء نظام دولي متعدد الأقطاب. وبرزت أهم تلك الدعوات في التالي:

فشل النموذج الغربي لإدارة العالم

(*) فشل النموذج الغربي لإدارة العالم: خلال مشاركته في منتدى حواري حمل عنوان "أفكار قوية للعصر الجديد"، 20 يوليو 2022، اعتبر الرئيس الروسي أن النموذج الغربي في إدارة العالم قام على نهب ثروات الشعوب، وفشل في تقديم بدائل للنظام العالمي، وأن المواجهة القائمة حاليًا مع الغرب ليست مرتبطة فقط بالوضع حول أوكرانيا، وإنما هي صراع بين نموذجين لإدارة العالم، معربًا عن قناعته بأن العالم يقف على أبواب مرحلة جديدة في تاريخه، وأن الدول صاحبة السيادة الحقيقية ستبلور ملامحها وتضع معاييرها، ونوعية الحياة وحماية القيم التقليدية والمثل الإنسانية العليا، ونماذج التنمية التي لا يتحول فيها الإنسان إلى وسيلة، بل يصبح الهدف الأعلى، مؤكدًا أن بلاده تلعب دورًا أساسيًا في التغيرات التي يشهدها العالم، لا رجعة في هذه التغييرات الهائلة، وعلى الصعيدين الوطني والعالمي يتم تطوير أسس ومبادئ نظام عالمي متناغم وأكثر إنصافًا وبتوجيه اجتماعي آمن بديلًا للنظام الحالي أو النظام العالمي أحادي القطب، الذي ظل قائمًا حتى الآن وبات بطبيعته عائقًا أمام تطور الحضارة.

تشكيل نظام دولي متعدد الأقطاب

(*) تشكيل نظام دولي متعدد الأقطاب: وجه الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، في 1 نوفمبر 2022، رسالة إلى رؤساء دول وحكومات الدول العربية المشاركين في القمة العربية التي استضافتها الجزائر، وأكد أن العالم يشهد تغيرات سياسية واقتصادية جادة، وأن تشكيل نظام متعدد الأقطاب للعلاقات الدولية يقوم على قواعد المساواة والعدالة واحترام المصالح المشروعة للآخر بات يكتسب زخمًا، مشيرًا إلى دول الشرق الأوسط وشمال إفريقيا التي يبلغ عدد سكانها مجتمعة ما يقرب من نصف مليار نسمة تلعب دورًا متزايد الأهمية في هذه العملية.

(*) تفكيك النظام العالمي: في خطاب له أمام البرلمان الروسي، 21 فبراير 2023، شدد بوتين على أن الغرب سعى لتحويل الصراع المحلي إلى عالمي، واعتبر أن بلاده تواجه خطرًا وجوديًا، مؤكدًا أنه من المستحيل هزيمة روسيا في أرض المعركة، مشيرًا إلى أن كييف أجرت محادثات مع الغرب بشأن إمدادات الأسلحة قبل العملية العسكرية. كما اتهم بوتين الغرب بالسعي إلى تفكيك النظام العالمي الذي تم التوصل إليه بعد الحرب العالمية الثانية.

(*) آسيا ونظام دولي جديد: في كلمة ألقاها الرئيس فلاديمير بوتين، أمام قمة مؤتمر التفاعل وإجراءات بناء الثقة في آسيا "سيكا"، المنعقدة في أستانا، أكتوبر 2022، رأى أن العالم بدأ متعدد الأقطاب، إذ تلعب آسيا الدور الأهم في هذا النظام الجديد، وشدد على أن روسيا تفعل كل شيء لتشكيل نظام أمن متساو وغير قابل للتجزئة، كما تدافع عن التنمية والازدهار في آسيا وإقامة روابط اقتصادية متينة في هذه المنطقة.

حدود التغيير:

تعكس الذكرى الأولى للأزمة الروسية الأوكرانية، وما تفرضه حقائق القوة على أرض الواقع إخفاقًا لتحقيق تغييرات جوهرية ملموسة تؤثر على طبيعة النظام الدولي القائم أو هيكل القوة بداخله أو حتى إعادة ترتيبها وفق أي معادلة جديدة، ويعود ذلك للأسباب التالية:

(&) السلوك التصويتي في الأمم المتحدة: في ظل تمكن روسيا على مدار عام من منع تمرير أي قرار داخل مجلس الأمن بشأن أوكرانيا لامتلاكها حق النقض (الفيتو)، اتجهت الدول الغربية إلى الجمعية العامة للأمم المتحدة، للتصويت على مشروعات القرارات التي تدين الغزو الروسي لأوكرانيا، التي حظيت بتوافق واسع النطاق. فعلى سبيل المثال وفي أحدث قرار للجمعية العامة للأمم المتحدة، الذي تزامن مع الذكرى الأولى للحرب الروسية الأوكرانية، 23 فبراير 2023، الذي أعاد تأكيد الالتزام بوحدة أراضي أوكرانيا، ومطالبة روسيا بسحب قواتها من الأراضي الأوكرانية، وتحقيق سلام شامل وعادل وفقًا لمبادئ ميثاق الأمم المتحدة. فمن إجمالي 193 دولة عضوة في الأمم المتحدة، حصل القرار غير الملزم على تأييد 141 دولة (بنسبة 73 % تقريبًا)، مقابل اعتراض سبع دول هي: "روسيا، بيلاروسيا، سوريا، كوريا الشمالية، مالي، نيكاراجوا، وأريتريا". فيما امتنعت 32 دولة عن التصويت من بينها الصين والهند. وإجمالًا حظيت القرارات الثلاثة السابقة المتعلقة بالعدوان الروسي، التي صوّتت عليها الجمعية العامة بعدد أصوات يتراوح ما بين 140 و143 صوتًا، فيما صوّتت خمس دول بشكل دائم ضدها، هي: "روسيا، بيلاروسيا، سوريا، كوريا الشمالية، وأريتريا". وامتنعت أقل من 40 دولة عن التصويت.

حلف الناتو

(&) إعادة تفعيل دور حلف الناتو: برغم انتقاد الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون لحلف شمال الأطلسي، نوفمبر 2019، واعتباره يعاني من موت دماغي، داعيًا لتأسيس جيش أوروبي مستقل لحماية الأمن الأوروبي من التهديدات القائمة، إلا إن الحرب كان لها تداعياتها المباشرة على بعث الحيوية واستعادة دور الحلف تحت المظلة الأمريكية، إذ توطدت العلاقات بين دوله لمواجهة تهديدات روسيا، وهو ما تجلى في قبول فنلندا والسويد كعضوين جديدين في الحلف بعد انتهاجهما لسياسة الحياد، فضلًا عن اتجاه الدول الأوروبية نحو رفع موازنتها العسكرية. فقد أعلنت ألمانيا زيادة الإنفاق العسكري بمبلغ 100 مليار يورو، ورفع ميزانية الدفاع السنوية إلى 2% من الناتج المحلي الإجمالي، (وهي النسبة المعتمدة كقاعدة للإنفاق العسكري في حلف الناتو)، وتحديث الجيش ومعداته بشكل كامل. كما اتجهت قوى آسيوية داعمة للمنظومة الغربية ومنها اليابان، لرفع مخصصات إنفاقها العسكري لـ74 مليار دولار وتبنيها لعقيدة دفاعية جديدة، التي اعتبرتها واشنطن تعكس التزام اليابان القوي بدعم النظام الدولي القائم على القواعد وإقامة منطقة المحيطين الهندي والهادي الحرة والمفتوحة.

أوكرانيا كحرب بالوكالة

(&) حرب بالوكالة: أدت الحرب الروسية الأوكرانية إلى اصطفاف الدول الغربية خلف دعم أوكرانيا، في إطار حرب بالوكالة تخوضها تلك الدول، بهدف استنزاف قدرات روسيا اقتصاديًا وعسكريًا. لذلك جاءت زيارة الرئيس الأمريكي بايدن لأوكرانيا، قبل الذكرى الأولى للحرب بثلاثة أيام، في 21 فبراير 2023، وتعهده بتزويد أوكرانيا بأسلحة جديدة بقيمة نصف مليار دولار، وإعلانه الدعم الأمريكي لأوكرانيا في تلك الحرب. فيما أكد خلال زيارته لبولندا، في نفس التوقيت، أن مصلحة أمريكا القومية ومصلحة أوروبا تتطلب منع روسيا من الحصول على مكافأة لغزوها دولة ذات سيادة. فيما أعلنت وزارة الدفاع الأمريكية "البنتاجون" حزمة مساعدات أمنية جديدة لأوكرانيا بقيمة ملياري دولار مخصصة لتعزيز الدفاعات الجوية الأوكرانية. كما أعلن فوميو كيشيدا، رئيس الوزراء الياباني، تعهدًا بتقديم اليابان دعم مالي لأوكرانيا بقيمة 5.5 مليار دولار. يضاف إلى ما سبق إعلان كل من بريطانيا وألمانيا وفرنسا وهولندا تقديم دعم عسكري ومالي لأوكرانيا، بما يشكل اتجاهًا غربيًا لاستدراج روسيا نحو المزيد من الخسائر البشرية والعسكرية دون مواجهة مباشرة معها.

(&) استمرار مقومات الهيمنة الغربية: برغم تنامي الحديث عن أفول الهيمنة الأمريكية، إلا إن القدرات الشاملة للمنظومة الغربية بقيادة الولايات المتحدة الأمريكية لا تزال تتفوق على مجمل القدرات الشاملة المناوئة للهيمنة الغربية، فالولايات المتحدة الأمريكية تمتلك أكبر اقتصاد على مستوى العالم، إذ يقدر ناتجها المحلي الإجمالي بـ23 تريليون دولار خلال عام 2022، كما تمتلك أكبر براءات اختراع على المستوى العالمي، كما أنها الاقتصاد الأكثر تطورًا في مجالات الإبداع والتقدم التكنولوجي. كما يعد الإنفاق العسكري هو الأكبر على مستوى العالم وفقًا لموقع جلوبال فاير باور، بلغ 770 مليار دولار خلال عام 2022. فيما ارتفعت مخصصات الإنفاق العسكري الأمريكي هذا العام لـ858 مليار دولار. فيما تأتي الصين في المرتبة الثانية بعد الولايات المتحدة الأمريكية، من ناحية الناتج المحلي الإجمالي الذي وصل 18 تريليون دولار خلال 2022، فيما خصصت 250 مليار دولار لإنفاقها العسكري في ميزانية عام 2022. فيما يبلغ الناتج المحلي الإجمالي لروسيا خلال عام 2022 ما يقرب من 2.14 تريليون دولار، فيما يقدر الإنفاق العسكري الروسي 82 مليار دولار و600 مليون دولار.

الرئيس الروسي فلاديمير بوتين ونظيره الصيني شي جين بينج والأوكراني فولودمير زيلينسكي

(&) رفض المقترح الصيني لإحلال السلام في أوكرانيا: رفض الاتحاد الأوروبي المقترح الصيني لإحلال السلام في أوكرانيا، الذى جاء تحت عنوان موقف الصين تجاه الحل السياسي للأزمة في أوكرانيا، وتناول 12 بندًا تمثل القضايا التالية: احترام سيادة الدول، التخلي عن عقلية الحرب الباردة، وقف الأعمال العدائية، استئناف محادثات السلام، إيجاد حل للأزمة الإنسانية، حماية المدنيين وتبادل الأسرى، الحفاظ على سلامة المنشآت النووية، تقليص الأخطار الاستراتيجية، تسهيل تصدير الحبوب، وقف العقوبات أحادية الجانب، الحفاظ على استقرار سلاسل التوريد، دعم مرحلة إعادة الإعمار. ويبدو أن الرفض الأوروبي يقوم على أن المقترح الصيني لا يشمل انسحاب روسيا من الأراضي الأوكرانية التي احتلتها، وهو أحد الشروط التي تتمسك بها الدول الأوروبية والولايات المتحدة الأمريكية.

مجمل القول: إن الذكرى الأولى للحرب الروسية الأوكرانية، وتفاعلاتها تعكس أنها حرب عالمية وليست محدودة، إذ تشارك فيها أطراف دولية سواء بشكل مباشر مثل روسيا أو عن طريق الحرب بالوكالة مثل الولايات المتحدة الأمريكية والدول الأوروبية الداعمة لأوكرانيا، وتشهد تنافسًا بين رؤيتين مختلفتين لقيادة النظام الدولي وإدارة العلاقات الدولية روسيا وداعميها من ناحية، والولايات المتحدة وحلفائها من ناحية أخرى، كما كان لتداعياتها تأثير على كل الدول بلا استثناء. غير أن تداعيات تلك الحرب في ذكراها الأولى لم تسفر عن تغيير جذري في توازنات القوى الدولية، أو في بنية النظام الدولي ومؤسساته أو قيمه الرئيسية أو عن أي تغيير محتمل في إدارة الشؤون الدولية. وهي المؤشرات التي تعكس استمرار توازنات القوى القائمة على مستوى النظام الدولي أو على مستوى ممارسة التأثير والنفوذ الدوليين، حتى تحسم الحرب لصالح أي من الفريقين بعمل تدميري هائل توظف من خلاله القدرات النووية أو تنضم الصين لروسيا لحسم الصراع، وهو السيناريو المستبعد حدوثه.